الجمعة، 15 يونيو 2007

cpitalisme


On appelle « capitalisme » un système économique qui possède une ou plusieurs des caractéristiques suivantes, protégées par un système de lois et usages :
liberté d'
entreprendre avec les risques associés, éventuellement pondérés par les systèmes assurantiels;
appropriation privée possible de services (ex fourniture d'eau) et de
ressources naturelles (plus ou moins difficilement, lentement ou couteusement renouvelables, voire non-renouvelables (ex : cas d'une espèce qui disparaîtrait suite à surexploitation) ou non renouvelable aux échelles humaines de temps ; pétrole ou charbon par exemple);
propriété privée des moyens de production;
une certaine
liberté des échanges économiques;
recherche du
profit, pour notamment rémunérer des actionnaires et/ou compenser leurs prises de risque;
possibilité d'accumulation de
capital et de spéculation;
salariat et développement d'un « marché du travail ».
Dans les sociétés réelles, ces caractéristiques peuvent exister indépendamment les unes des autres, et chaque trait peut être plus ou moins prononcé. La propriété des ressources et moyens de production y est en fait souvent partagée entre des individus, groupements et des
États, donnant naissance à une gamme continue de sociétés d’économie mixte. Par ailleurs, la séparation entre les rôles de détenteur de capitaux (rémunéré par le profit) et de travailleur (rémunéré par un salaire) tend à devenir plus floue, ces derniers pouvant posséder une part plus ou moins grande des moyens de production, dans un contexte de plus en plus mondialisé.
De même, la propriété privée des ressources ou moyens de production peut coexister avec un haut degré d’
interventionnisme de la part de l'État, par exemple la fixation autoritaire des prix et des conditions d’échange, que condamne théoriquement le libéralisme économique. De telles pratiques dites « non-libérales » peuvent être souhaitées par certains propriétaires privés ou publics de ressources et moyens de production qui y voient un moyen de protéger et augmenter leurs profits en demandant à l’État de les protéger contre la concurrence, éventuellement contre la volonté des consommateurs.
Par ailleurs, dans un régime libéral, les propriétaires de moyens de production peuvent arbitrer de diverses façons entre le souci de servir les consommateurs, la recherche du profit et l'accumulation de capital. On considère néanmoins qu'en régime capitaliste, le mobile principal de l'activité économique est la recherche du profit qui trouve sa contrepartie dans le risque (Larousse 2000).
On parle parfois de
capitalisme d’État pour désigner une situation où toutes les ressources et tous les moyens de production seraient propriété d'un État, ce qui est à l’opposé du capitalisme au sens classique (voir définition). Il peut être le fait d'un groupe au pouvoir qui les utiliseraient dans son propre intérêt, comme le ferait une personne privée, et non dans l’intérêt de la collectivité. Il doit alors s'appuyer sur un système autocratique, autoritaire à totalitaire, militaire ou religieux pour imposer ses points de vue.

الأربعاء، 13 يونيو 2007

الكتابة و الموت



1 فـي الكتابــة والملكيـــة[1]
يتردَّد كثيرا قولُُ مفاده أنَّ العمل الأدبي حالما يخرج إلى حقل التداول يستقل عن كاتبه ولا يعود ملكا له. رأيُُ لا شكَّ في وجاهته، غير أننا نودُّ المضيَّ به أبعد للتساؤل: هل كان هذا الأثرُ في يوم من الأيام بالفعل مِلكا لمُوَقعِه؟ سؤالُُ لا نملك الإجابة عنه إلا بالنفي؛ ففي ما وراء الأسماء الموقِّعَة للأعمال مُعتليَة أغلفة الكتب، لا يملك المبدعون شيـئا؛ كل ما يقومون به هو أنهم ينقلون لقرائهم رَسَائل مُودَعة في اللغة. إنهم ينكتبون لا غير.
وبقدر ما يَدفع هذا الطَّرح إلى التفكير في كونه طرحا مثاليا، يندرج ضمن نظرية للإبداع باعتباره وحيا، في مقابل النظرية الأخرى التي ترى الابتكار ثمرة حسابات واعية
[2]، نودُّ التساؤل عمَّاذا يتمُّ عندما تتواطؤ جماعة القراء والكتاب فتنسب ما للغة إلى أشخاصٍ بعينهم. كيف يسوِّغُ هذا النَّحلُ نفسَه؟ لا ندَّعي امتلاك إجابة عن هذا السؤال، وبالمقابل نودُّ الإشارة إلى أنَّ هذا الطرح يتأصَّلُ في تأكيدٍ لهايدغر مفاده أن «الكلامَ مُتَكلَّم»[3]. تأكيدُُ توصَّل إليه الشعراء عفويا، فقال رامبو: «الأنا آخر»[4]، ثمَّ تبناه محللون نفسانيون، مثل جاك لاكان عندما يؤكدُ أن «الهو» يفكر في مكان لا يمكننا أن نقول فيه «أنا كائن»، ثم يقلبُ الكوجيتو الديكارتي «أنا أفكر، وإذن فأنا موجود»، بحيث يصير «أوجد حيث لا أفكر وأفكر حيث لا أوجَد».
ونوَدُّ دفع هذا المنظور إلى تخومه القصوى بحيث نُظهـرُ أنَّ الملكية لا تتعدى مجرَّد وهْمٍ خالصٍ؛ فنحن معشر «بني الإنسان» لا نملك شيئا في حياتنا ولا في مماتنا. نحن غرباء عن هذا العالم، ونعيش فيه فقرا مدقعا: لا نملك أجسادنا ولا أفكارنا ولا أمكنة تحركنا ولا «ما هيتنا» إن كانت لنا ماهية أصلا:
لا نملك أجسادنا لأنني وإن كنتُ جالسا في هذا المكان، فوقَ هذا الكرسي، أمامَكم، وراءَ هذه الطاولة، وسَطَ هذين الصَّديقين، فإنني لا أدركُ من «واقعي المادي»، باعتباري كتلة جسمية، إلا شيئا يسيرا جدا. وبالتالي تبقى حقيقتي المادية متشظية داخل مختلف صُوَري التي توافيكم بها أعينكم، والرَّهينة بدورها بالمجالات البصرية المعروضة أمامكم. والأمرُ نفسُه ينطبق على كل واحد ممن يوجد داخل هذه القاعة؛ إنه شظايا تتعدَّد بتعدد الأوضاع والأماكن التي يُشَاهده منها راؤوه. ولعل هذا ما يودُّ دولوز التعبير عنه عندما يؤكد أننا: «لا نملك جيدا إلا ما هو ممتلَكُُ مُسْبقا (...) لا نملك جيدا إلا ما هو منزوع الملكيـة، ما هو موضوعُُ خارج ذاته، مُضاعَفُُ، منعكسُُ للأبصار، متعدِّدُُ»
[5].
لسنا نملكُ أنفسنا لأن «ماهية» كل واحدٍ منَّا و«حقيقتَه» تظل خارج مجموع ما يكوِّنه المرءُ عن نفسه من آراء وتصوُّرات من جهة، وما يحمله عنه الآخرون من تمثلات وأفكار وأحاسيس وانطباعات من جهة ثانية. وهو مجموعُُ يستحيل على امرئ أن يدَّعي امتلاكه؛ فأنا شخصُُ «عاقلُُ» في نظر البعض، «مجنونُُ» في نظر البعض الآخر، «ساذَجُُ» في رأي قومٍ، «طيبُُ» في رأي آخرين، «شريرُُ» في نظر أناس، «ماكر» في نظر آخرين... ومهما أظهر من سلوكات لجعل الآخرين يحملون عنِّي صورة واحدة، سأعجز على الدَّوَام عن الوصول إلى ذلك. أيضا، مهما أحاول الإحاطة بالصُّورَة التي يحملها عني الآخرون سأعجز دائما عن الوصول إليها. وتبقى «حقيقتي» هي هذه الصُّورة المنكسرة - التي يستحيل عليَّ جمعها - المتناثرة في ذهني وأذهان الآخرين الذين لا يتألفون ممن «أعرفهم»، من الذين تواترت لقاءاتي بهم فحسب، بل وكذلك ممن التقيتُ بهم صدفة وتحدثت معهم ثم غابوا عني وغبتُ عنهم إلى الأبد، ومن الذين أعطَى لهم في كل لحظة باعتباري جسما مرئيا يتحرَّك في الطرقات، أو يستقلّ الحافلات، الخ. قد يَكونُ هذا ما خبره كلوسوفسكي عندما انعطفَ بمجموع عمله نحو «هدفٍ وحيدٍ، هو ضمان فقدان الهوية الشخصية، أي تفكيك الأنا»
[6]، هذا التفكيك الذي يأخذ بُعدا مِرءاويا بحيث لا تغدو «الأنا المرئية هي التي تفقد هويتها تحت النظر فحسب، بل وكذلك أنا الرائي، الذي يضع نفسه خارج ذاته، الذي يتعدَّد داخل رؤيته»[7].
نحن لا نملك العالم، لأننا فضلا عن كوننا لا نعرف ما إذا كان هذا المحيط قد خلق لنا أم أننا خُلقنا له، أم أنَّ كلانا لم يوجَد للآخر، وبالتالي فنحن مجرَّد غريبين يجمعهما سَفرُُ لا يدري كلاهما وجهتَه ولا منتهاه، فضلا عن ذلك نحن لا نرى الشيء الواحد مرتين بطريقة واحدة. لقد كان هيرقليطس يقول: «لا نسبح في النهر مرتين» إشارة إلى التحوّل المزمن الذي يطبع الكون. غير أنه يمكن المضيّ أبعد لتأكيد أننا لا نرى الشيءَ الواحد مرتين ليس لأنَّ هذا الشيء يتغير دائما فحسب، بل وكذلك لأننا لا نملك هوية قارَّة، لأننا بدورنا نتغير في كل لمحة بصـر.
تأسيسا على ما هو مذكور أعلاه، من كوننا لا نملك «أجسادنا» ولا «أنفسنا»، يمكن القول إن أشياء العالم الطبيعي ليست ملكا لنا لأنها، فضلا عن تشظيها الدائم في مجالاتنا البصرية، تتلوَّن، أو نلوِّنها بالأحرى، دائما بأحوالنا النفسية ومَدَارَات أفكارنا المتقلبة باستمرار. وعليه، فإنني لا أرى الشيء الواحد بنظرتين متطابقتين، وإن كان الفاصل بينهما رمشة عين، ولن أمرّ من المكان الواحد مرتين؛ في كل مرة يكون المكان قد تغيَّر وأكون «أنا» المار منه لستُ «أنا» الذي مرَّ منه قبل لحظات. وواضحُُ أنَّ الوصول إلى هذا الإدراك يقتضي بذل مجهود جبار لإرهاف هذا الحسّ الذي يوجد داخل كل امرئ، لكنه قليلا ما يشغله.
والأمر نفسه يمكن قوله عن الزَّمن والتاريخ؛ فاللحظة أو اليوم، أو السنة الحالية، نحن لا نملك منها إلا ما نسقطه عليها من هويتنا «الوهمية»؛ إذا كان اليوم هو 19 شتنبر 1996، فماهية هذا النهار ودلالته تتشظى بتشظي أحوال بني البشر: لنشبهه بنقطة في درب أو بشمس في سماء. اليوم في «نظر» المولود الذي يخرج الآن من رَحِم أمه هو نقطة بداية الدَّرب، هو مطلع الشَّمس. المشوار طويلُُ. لكن اليوم نفسه بالنسبة لكهل في فراش الموت يحتضر هو نهاية الطريق، هو الشمس وقد مَالتْ إلى الغروب، ولم يبق منها سوى شبه هلال محمرّ. اليوم نفسه، أيضا، بالنسبة لشخص سليم البنية، في منتصف العشرينيات أو الثلاثينيات من عمره، ممتلئ حيوية وطموحا، هو منتصف الدَّرب أو أقلّ، هو الشمس وقد استقرت في كبد السَّمـاء.
بالنظر إلى ما سبق، يغدو من العبث الحديث عمَّا يُفتَرَضُ «أني» كتبـ (تـُ)ـه. ومع ذلك سأجهد النفس في منح «معنى» مَّا لوجودي هنا، فأغمضُ العينَ عن سؤال التواطؤ المطروح أعلاه، وأحاول العبث بالعبث لأقول ما يلي:
2. في أصـل اهتمـام بالمـــوت
إمعانا في المغالطة، يمكن افتراض أن الأعمال الإبداعية تتأصَّلُ في أرضية، تتجذَّرُ في تربةٍ مَّا. هذه التربة، في ما يخصُّني، تنشطر إلى إقليمين: أحدهما ظاهر، والآخر باطن. الأوَّل «واعٍ» يمكن الحديث عنه، أما الثاني فـ «لا شعوري» سأتحاشى ذِكره لا لغياب مفاتيح ولوجه، ولكن فقط لكوني ما للتعرِّي أمامكم جئتُ، ولا لعرض العقد - التي لي منها نصيبُُ وافرُُ كسائر النَّاس - أتيتُ، ولا لاستدرار الشفقة حضرتُ. فإذا شفعنا فقرنا المطلق بالموت الذي نحن جميعا له منذورين كنَّا محتاجين قاطبة إلى شفقةٍ، إلى شفقةٍ كبرى قد لا يقوى على منحها إلا قـوة من خـارج هـذا العـالم.
أوَّل ما فتحتُ عيني، في مدينة القصر الكبير، فتحتها على مقابر. كانت ملاذا للعب الطفولة، لكن أيضا مسرحا لفرجة يومية موضوعها مواراة جثث تحت التراب. فرجة كانت من التكرار بحيث ما زالت الذاكرة تحفظ عن ظهر قلب، وإلى اليوم، تفاصيل عمليات الدَّفن تلك: ما يردُّده الموكب الجنائزي وهو قاصد المقبرة، كيف ينزل النَّعش، كيف يتحلق الموكب حول القبر، ما يتلوه الدافنون وهم يوارون الجثة تحت التراب، الضمير الذي كان يتيح للصبيان معرفة جنس الميت (إن قيل: «اللهم إن صاحبنا قد خلف الدنيا وراء ظهره فلا تبتله بما لا طاقة له، وألحقه بنبينا عليه السَّلام...» كان الميتُ ذَكرا، وإن قيل: «اللهم إن صاحبتنا قد خلفت الدنيا وراء ظهرها فلا تبتلها بما لا طاقة لها به....» كان الميت أنثى)، الاصطفاف لاستلام الصدقة المتألفة من كسرة خبز وحفنة تين جافّ، رحيل الموكب عن المقبرة، اختلاء فقيهٍ بالقبر وغمغمته بكلام يُفتَرَضُ أنه حديث مع الميت الذي تكون الروح قد عادت إليه دون أن يعرف أين هو، انصرافُ الفقيه، ثم تحلق الأطفال - الذين كنتُ واحدا منهم - حول القبر للتصنت على الملاك عزرائيل وهو يستنطق الميت ويعاقبه!...
ثمَّ كانت الإقامة في مدينة الرِّباط، بجوار البحر، في حي قصر البحر. موقعُُ بنتوئـه نحو الدَّاخل يتيح باستمرار رؤية جثث يقذفها البحر نحو الشاطئ بيضاء كقطع الشحم أو الصَّابون. مشهدُُ تكرَّر أمام العين مرَّات عديدة لينقش في الذاكرة، وإلى الأبد، تفاصيل أغلب عميلات الانتشال. ثمَّ جاءت سنة، فانتزع الموت من العائلة خمسة أشخاص دفعة واحدة: الجد، الأخت، عمَّة واحدة، وابنتي عمَّتين.
قد يكونُ في هذا ما يفسر جزئيا الانشغال بتيمة الموت، فكانت هذه النصوص التي تتألفُ في معظمها من مادة واقعية: ففتاة نصّ «هذيان ميت» انتحرت على مرأى من العينين، في مدينة مكناس، وتجربة النزول اليومي إلى قنطرة وِسلان تجربة حقيقية، والعجب يغمرُ صاحبها إلى اليوم من كونه خرجَ منها «سليما»، والجارُ البدين الذي يتردَّد اسمه في أكثر من مكان وتُستَعادُ تجربة انتحاره في نص «خارج المدار البشري» كان جارا فعلا، وألقى بنفسه من سَطح العمارة على نحو ما هو موصوف في الكتاب، والطفل الزبير المذكور في نصّ «ندار الموت» كان ابن جيران، ووضعَ حدَّا لحياته بلف حبل حول عنقه فعلا، والجثة مدار الحكي في نص «حديث الجثة» جثة واقعية منحت نفسها للرؤية في أحد الأسفار من مدينة الدار البيضاء إلى مكناس؛ كانت ملقاة وسط الطريق السيَّار على نحو ما هـو واردُُ فـي النـصّ...
صبيحة التوجُّه إلى «فضاء القراءة» بمكتبة الكرامة، لدَى السَّفر من مكناس إلى البيضاء، كان الموت نفسه حاضرا عند مدخل المدينة: اصطفَّ طابورُُ من السيارات تتقدَّمه سيارة أجرة منكسرة الدَّرَّاءَة، وقبالتها مباشرة تمدَّدَت جثة امرأة مرتدية جلبابا أزرق، وتحت رأسها ضاية من الدِّمَاء الحمراء. صبيحة اليوم الموالي، وهذه المرة كنتُ رفقة أفرادٍ من العائلة، كان مشهدُ الجثة نفسه يمنح نفسه للرؤية عند مخرج نفق درب ابن جدية، وبالإخراج نفسه!؛ امرأة أيضا، بجلباب أزرق (!!) مطروحة على الطريق جثة هامدة، تحت رأسها ضاية من الدماء القانية. لقد داستها سيارة!! يمكن أن يبدو هذا غير قابل للاحتمال لفرط تواتره، لكنني لستُ من السَّذاجة بحيث أزعم أنَّ الموت يترصَّدُ لي الطرقات، أو يتعقبُ خطواتي دون سائر الناس، أو أنني «ابتليتُ» بما لم يبتلى به الآخرون. هذا كلامُُ لا معنى له، إذ لستُ الوحيد الذي رأى ما رأى. لكن ما كلّ الناس جعلوا الموت محور انشغالهم. لماذا؟ ذاك شأنهم. أما أنا، فأمام كلّ موت، خبرا كان أم جثة معطاة للبصر، أتذكَّرُ أيَّ شيء نُذِرْتُ له، وأتساءل: ماذا أفعلُ هنا؟ ما معنى كل ما أفعله إذا كنتُ إلى هذا المصير آيل؟ إذا كنتُ أجهلُ متى سأموت وكيف، فمن المحتمل أن أموت بالطريقة نفسها التي مات بها صاحب هذه الجثة الملقاة أمامي أو النعش قبالتي. إن أمت هكذا فكيف سأنتقل من كائن حيّ يسير ويفكر ويحسّ، الخ. إلى جثة هامدة؟ بماذا سأحسّ عندما سأكون بصدد المحو؟ فأدعو الموت والسيِّدات الثلاث، ثم أجلسُ للكتابة (ليس بالضرورة في الموت). وواضحُُ أن جزءا مما يخسره الميِّتُ، أو يُحرَم منه، يربحه الحيّ المتخلف وراءه؛ إذا كان كل واحد منا يُحرَمُ من مشاهدَة نفسه وهو جثة هامدة، فإن الأحياء المحيطين به يربحون تلك الرؤية. ولعل هذا ما يقصده البعض بقوله: «إن المرء الحيَّ الذي يتأملُ ميتا يُحِسُّ بأنه أعلى منه. وهذا صحيحُُ لأنه بالفعل يكون أكبر منه»
[8]. لكن الأحياء، بالمقابل، يخسرون ما «ربحه الميت»، وهو الأحاسيس والمشاعر والأفكار التي انتابته وهو يفارق الحياة. هذا الخسران لا يمكن تعويضه إلا بالكتابة، عبر استدعاء ثلاثي الاحتمال والمتخيَّل والاستيهام، على نحو مـا سنـرَى.
لنتخيَّل أننا في أزمنة «البدايات» والبشرية أمام كل الاحتمالات؛ المستقبل طرقُُ متشابكة. يموتُ الإنسانُ الأوَّل، يتساءل المتخلفون، حتما، عن سبب وفاته دون أن يتوصَّلوا إلى جوابٍ، ثم يموت الثاني، والثالث، فالرَّابع، والخامس، فيدرك الجميعُ أنَّ كلَّ موتٍ إن هو إلا رسالة تذكره بموته الخاصّ، أي بمصيره... يبدو أنَّ سؤال الموت قد أرَّق الأحياءَ، وأمام عجزهم عن فكّ لغزه، وولوج «الخلود» أخذوا الطريق التي نحن في إحدى محطاتها الآن نقيم. لم يكن من الضَّروري أخذها. هذا ما يبينه نيتشه وجورج باطاي، ضمن آخرين. قال الأول:
«إذا تجرَّد الباحثُ من المسبقات وتطرَّق لتاريخ العين وأشكالها عند المخلوقات الأكثر بدائية، وتتبَّعَ النشأة التدريجية للعين، توصَّلَ إلى هذه الخلاصة الهامة، وهي: لم تكن الرؤية هي الغاية من نشأة العين، بل ظهرت المشاهدَة بالأحرى لما جمعـت لـها الصُّدفـَة أدوات الرؤيـة»
[9]
كما قال: «كيف جاء العقل إلى العالم؟ أتى كما ينبغي [أن يجيء]، بطريقة مجنونة، جاء بالصدفة»[10]. وطَرَح الثاني مفهوم «عينٍ صنوبرية»، تنفتحُ في قمة جمجمة الإنسان ليلِجَ بُعدَه الثاني، العمودي (في مقابل البُعد الوحيد المتعامَل معه حتّى اليوم، وهو البُعد الأفقي الذي يجعل الإنسان يحيا ويتحرَّك بموازاة الأرض، ويجعل عينيه تضعاه على اتصال بما يحتاج إليه في حركته الضَّرورية، علما بأن الإنسانَ نفسه - في نظر باطاي دائما - هو أيضا الكائن الذي يسمو عن الأرض في اتجاه السَّماء، أي أنه مُنتَصِبُُ) حتَّى يؤدي الغاية التي من أجلها وُجِدَ، وهي أن ينظُرَ إلى الشمس والسَّماء، باعتبار الأخيرة «فراغا هائلا»[11]... لستُ في حجم الفيلسوفينِ، ومع ذلك فإني أستسمح القارئ لأزعَم بأنَّ «حديث الجثة» محاولة للتعبير عن قلق عميق تجاه الشَّرط البشري الحالي. تعبير محدُودُُ جدا، بوسيلة محدودة جدا، وفي رقعة جغرافية (قِرائية) ضيقة للغاية، صرخة كطنين الذبابة التي لا يتعدى وضعي الاعتباري إياهــا.
أظهرت بعض الدراسات حول الجسد
[12] أنَّ البشرية الحالية بصدد إنجاز فتوحات عُظمى في حقل البيولوجيا. فتوحات يستقبلها البعضُ بالزعيق والاستنكار إلى حدّ التنديد بها والدَّعوة إلى الإيقاف الفوري للتجارب التي منها هذه الفتوحاتُ تقتاتُ. مَدارُ هذه الإنجازات يمكن اختصاره في كلمة واحدة: محو الفرد لصالح الحياة. إن يمتْ فردُُ، مثلا، يمكنه مواصلة الحياة في جسد فردٍ آخر بزرع ما صلح من أعضاء الأول في جسم الثاني؛ سيغدو بالإمكان العثور على امرئ يحيا بدماغ شخصٍ، وكِلية إنسان آخر، وعين فردٍ ثالث، ومعِدَة رابع، الخ. والإنسانُ الذي يصلُ إلى هذا المستوى من الكشوفات قد يتوصل في يوم من الأيام إلى حل لغز الموت. آنذاك، لن يكون أي معنى لكلّ ما قيل في الموت وما كتب عنه، مُنذ القِدَم حتَّى اليوم. سيأخذ المكانة ذاتها التي تأخذها الآن سائر التفسيرات التي كان يمنحها الإنسانُ قديما لما عجَزَ عن تفسيره أو التحكم فيه، ولما توصَّل اليوم إلى ذلك نعتناها بـ «خرافات» و«ترَّهات»، وصِرنا لدى سماعها نشفـق على «سَذاجـة» الأوليـن.
3. ورشـة كتـابـة «حـديث الجثــة»
أنا سأموت لا محالة، وأنت الجالس قبالتي بدورك ستموت، والآخر القاعد بجانبك أيضا سيموت. ما في ذلك أدنى شكّ. فكلنا منذورون للموت. لكن متى سأموت؟ أين سأموت؟ وكيف؟ هذا ما أعجز تماما عن الإجابة عنه. لكن مع ذلك لنفترض أن الموت ضرَب لنا موعدا، دون سابق إعلام، للقاء في هذه اللحظة بالضبط؛ يهـوي السَّقف علينا، ثم نموت جميعا. مع ذلك، فكل واحد منا سيموت وحيدا، سيجتاز موته بمفرده. حتى وإن انعجنت أجسادُ بعضنا ببعض وزهقت أرواحنا في لحظة واحدة سيجتازُ كلّ منا «تجربة الموت» بمفرده. أكثر من ذلك، حالما يموتُ كل واحدٍ منَّا ستنقطع صلته بالعقل، والإحسَاس، واللغة، وبالتالي سيتعذر عليه أن يحكي موتَه للآخرين؛ لن يتاح لنا أن نجتمعَ ثانية في مجلس كي يحكي كل منا للآخرين تجربـة موتـه. غيـر أنَّ لهذا الجهل والحرمان ما يعوضهما. والطريق الملكية للتعويض هي الكتابة؛ إذا كان ستار موت كل امرئ قد أسْدِلَ عنه إلى الأبد، أمكَنَ - بالمقابل - تخيُّلُ آلاف الطرق والمواعيد والأحاسيس التي ستتجلى لحظة رفع هذا الستار، ونقلُها باللغة. بمجرد ما يشرع المرء في تشغيل سيناريوهات موته يجد نفسه وسط الاحتمال والاستيهام والمتخيَّل. وبقدر ما يمكن القول إن سرَّ كل كتابة رفيعة يكمن في حضور هذه العناصر الثلاثة يمكن القول إن الموت معين للكتابة لا ينضب: بمقدار ما سيكتب كلٌّ منا نصا عن الموت ستتعدَّد الرؤى والأخيلة وتتنوَّع الأحاسيسُ والاستيهامات، بل يمكن للمرء أن ينذر حياته للكتابة في الموت ولا يستنفد كتابتَه إلا موته الفعلي نفسه. ومن موقع متطرف ضمن هذا المنظور يمكن القول، دون خشية، إن الأدب بمجمله - وبمعزل عن تعدد تيماته - إن هو في نهاية المطاف إلا موت ينكتب مثلما حضارة البشرية جمعاء مجرد نشيد موتٍ ينتحب. الأدب موتُُ ينكتبُ في مستوى عميق جدا يتطلب بذل جهد أعمق للكشف عنه. مستوى يمكن معه ألا نتردد إطلاقا في نعت الأعمال التي تتخذ الموت موضوعا محوريا لها (ككتيب "حديث الجثة") بأنها أعمالُُ شديدة السَّطحية، وشبه غرائبية.
هذا أحدُ أصُول تمحور الكتيب الحالي حول الموت. ولكتابته صُرفتْ طقوسُُ ليلية، غالبا، ما كان الأنيسُ فيها إلا الموت وسيِّداتُُ ثلاث: القهوة السَّوداء، والموسيقى، والسيجارة. لم أبلِّل شفتي لحظة الكتابة ولو بقطرة واحدة بما يسميه ابن سينا مجازا بـ«الرحيق الإلهي»:
القهوة السوداءُ تهَدِّئُ وتمنح على التركيز. حقيقة خبرها سكان اليمن القدماء الذين انحازوا للقهوة ضدَّ القات
[13] مخلفين في ذلك أشعارا وشبه مناظرات، بين النباتين، لا مجال لإيراد نماذج منها في هذ االسياق. القهوة السوداءُ زادُُ للفكر والروح. متى أدمنها المرءُ تحولت وداعة الدنيا كاملة إلى تاج وحطَّت فوق جبينه. والموسيقى تطلق كيمياء الأحاسيس من معاقلها وتتحف الجليس بوجهين: وجهُُ ناطقُُ، والآخر صامتُُ؛ الصامت يحلق بالرّوح في فضاءات تنكشف فيها الحجب بين الأحياء والأموات. يدخل المرء إلى مدارات الصّوفية وأزمنة البدايات. والناطق منها يغذي الفكر، يشحذه، يوقد شرارته ويحرِّضه. ولمن أدمَن سماع شريط العجوز «كفى!. أليس صحيحُُ يا هذا!!» الذي سمعتُه وأعدتُ سماعه آلاف المرَّات أن يتحسَّسَ المسالك الباطنية التي ستنفتح له والبراكين التي ستثور برأسه من جرَّاء ذلك السَّماع. أما السيجارة، فتخفف حدَّة القلق، وتجعل الحياة قابلة للاحتمال. وهو ما انتبه إليه فرويد عندما أدرجها والكحولَ ضمن ما أسماه بـ «الملذات التعويضية» التي تجعل الحياة أكثر قابلية للاحتمال[14].
عندما يكتب المرءُ نصا ينتابُه الفرحُ، فيطوي الأوراق، يحفظ الملف، ثم يخلدُ إلى النوم، وهو مُطمئنُُ ومسرورُُ لما كتب. لكن بمجرد ما يعيد قراءته في الغد يغمره قرفُُ ويحسّ أنه غُبنَ، أنَّ مشاعر الرضى قد خدعته، أنَّ «الهو يتكلم» قد أوقَعَ به. ولذلك يمسك القلم أو يشحذ الأصابع للنقر على لوحة المفاتيح.. يحدث خروما في نص الأمس، يمحو كلمات ويغير أخرى، يسوي ما بدا له اعوجاجا، ثم يقول: «ها أنذا ظفرتُ أخيرا بالنص». لكنه لا يكون ظفر من النصّ، في الحقيقة، إلا بمحطة في رحلة. ولذلك تبعثرت جلسات كتابة النص الذي يحمل عنوان «حديث الجثة» على مدار سنة بكاملها: يُكتَب النصّ، ثم يُهمَل أسابيع أو شهرا، ثم يُخرَج ويُعَدَّل، فيُهمَل، فيعادُ إخراجه من جديد، وهكذا إلى أن حصل نوع من «الارتياح» للتراضي الذي توصَّلت إليه شظايا «الأنا» أو «الأنوات» بالأحرى. غير أن هذا التراضي ليس نهائيا. ربما هو مجرد ذريعة تبرر النشر... متى خطا الإنسانُ خطوة واحدة في هذا الدَّرب - وهو ما لا أزعم إطلاقا أني رسَّختُ القدم فيه - أدرَكَ أن ليس في التشريف والتقدير اللذين يحظى بهما الكتاب الذين انتزعوا اعتراف الإنسانية جمعاء ما يدعو للحسَد، وفهمَ لماذا ترنَّحت أمُّ أحد كبار شعراء هذا القرن باكية عندما أخبرها ابنها بأنه «اختار» أن يكون شاعــرا.
4. نحـو إيتيكـا جديـدة للحيـاة المـوت
لا يمكن لمن رافق الموت مدَّة أن يعود بخفي حُنَين. فللموت هباتُُ عظمى، أقلها إدراك حقيقة كوننا داخل السَّراب والوهم نقيم، إن لم نكن داخل الموت نفسه نقيم. وأمام هذا «الكشف» قد لا يجد المرء «حلا» سوى استشراف أفقين: الأول التهيؤ للموت، والثاني إعادة النظر في كل ما تلقاه من قبـل.
عندما لا يفصلنا عن السفر سوى ليلة واحدة، نقضي مساء غير عادي؛ نهيئ الأمتعة، ونلقي على البيت نظرات ليست كنظرات سائر الأيام. وبقدر ما تنتابنا فرحة الانتقال إلى مكان آخر يغمرنا حنين مُسبَق إلى المكان الذي سنفارقه. كأننا بذلك نستبق الوصول إلى مكان سفرنا، كأننا وصلنا إليه ببوصلة باطنية ولم نفارق مكان إقامتنا بعدُ. هكذا ينبغي معاملة الحياة. إقامة قبيل السَّفر. وقوفُُ في محطَّة لن يدوم إلا مقدار ما الوقت الفاصل بين المسافر ووصول القطار. أمرُُ أدركَه كوكتو عندما قال:
«حتـَّى لو عشتُ مائة عام، لن يكون مقامي (في الحيـاة) إلا كمن أقام فيها بضع دقائق. لكن قليلون هم الذين يريدون تصديـق ذلك، قليلون هم الذين يقبلون تصديق أننـا ننشغـل ونلعب داخل قطار ينحدر بأقصى سرعته نحو الموت»
[15].
قليلا ما يُشعرُ الموتُ بقدومه عن بُعد. وحتَّى عندما يفعل ذلك، كأن يعرف المرء أنه مصابُُ بداء عُضال أو تلحق بجسده أعطاب قاتلة ميئوس من شفائها، فإن متلقي خبَر اقتراب موعد موته لا يتلقى النبأ إلا باعتباره ولوجا للموت، فيطأ بالفعل عتبة المنية قبل الأوان؛ يبدأ في العدّ العكسي لما تبقى من حياته، يغمره القلق، ويشعر بالغبن. يصرف ما تبقى من «حياته» مفكرا في الموت، فيفوِّت على نفسه الاستمتاع بحياة الوقت الفاصل بينه وبين الموت الحقيقـي. والمفارقـة الكبـرى هنا هي أنَّنا نتلقى يوميا رسائل عن موتنا، هي الأخبار التي نقرؤها أو نسمعها عن موت هذا الشَّخص أو ذاك. هذه الأنباء في الواقع لا تقول: «إن فلانا مات» فحسب، بل وكذلك تخاطب كل واحد منا قائلة: «سواءُُ أطال الزمان بك أم أقصُر، فإنك إلى المصير نفسه آيل». وكونُ الموت لا يُشعِرُ بالمجيء يجعلنا مهدَّدين في كل لحظة بالتعرض له، ولذلك ينبغِي دائما التعامل مع الأفراد والأشياء المحيطة بنا وكأننا سنفارقها بعد قليل، ينبغي التعامل معها كالمسافر وقد حان وقت إقلاعه. هذا ما أفعله شخصيا كل يوم، قبيل كل خروج من المنزل، وبالخصوص قبيل كلَّ سفـر إلى مدُن أخـرى.
يبدو أنَّ القلقَ الذي يلفّ كلَّ تفكير في الموت يعودُ -ضمن ما يعود- أساسا إلى ما يمكن تسميته بـ «وهم الوحدة والفردية» الذي يتحكَّمُ في رؤيتنا لأنفسنا وفي علاقاتنا بأشياء العالم المحيط بنا: وحدة الجنس، ثم - داخل الجنس الواحد - وحدَة الجسَد، ووحدة الفكر، الخ. علما بأنَّ هذا الوهم بقدر ما يضفي على وجود الأشياء صبغة إشكالية، إذ يجعل «لكل شيء ميزة كونه لا يكون إلا واحدا، الأمر الذي يضفي عليه قيمة كبرى، وسلبية كونه لا يُعوَّض، الأمر الذي يحط من قيمته للغاية»
[16]، بقدر ذلك يعمِّق غربتنا في العالم ويجعل وطأة الموت علينا أكبر من أن تحتَمَل. في حين يبيِّنُ تأملُ ما يؤول إليه الجسد بعد الموت من تحلل، وتحول إلى ديدان، وعظام، فتراب، أنَّ الموت إن هو إلا ولوج «دورة حياتية» أخرى. بتعبير آخر، إن الموت وإن كان يعطِّلُ فينا الإحساس والحركة والتفكير، فهو لا يفنينا؛ كل ما يفعله هو أنه يولجنا في سياق حياتي آخر، في دورة الحياة كلية الحضور، ومن ثمة فلا شيء منا يضيع. حقيقة حام حولها شعراء أمثال المعري، وعمر الخيام[17]
بالنظر إلى ذلك، يمكن التغلب على قلق الموت، وتبديد ما يلحقه بالإنسان من أحاسيس الغبن، بولوج نمط وجوديّ آخر: نمط يربط فيه الإنسان علاقة حميمية بالعالم الطبيعي المحيط به تصل إلى حد القرابة واستشراف الامتدادات بينه وبين هذا العالم، بحيث أرى يديَّ هاتين، مثلا، ليس مجرد دم ولحم وعظم، بل وكذلك خمائل عشب وباقات زهور وحفنات تراب وجماعات ديدان ما يحجبها عنِّي الآن إلا كوني لم أوارَ تحت التراب بعد. يبدو أنَّ الرَّسامين السّورياليين وبعض مرضى الشيزوفرينيا قد أدركوا هذه الحقيقة: ففي لوحة أندريه ماصُّون التي يعبر فيها عن فكرة أن «لاوجود لعالم مكتمل»، نشاهد ثلاثة أجساد: جسدان شبه بشريين. شبه بشريين لأن كل ما يتيح إدراجهما ضمن بني الإنسان هو هيكلهما لا غير. أما ما تبقى منهما، فهو امتدادات في رؤوس حيوانات أو جذور نباتات. في حين يأخذ الجسد الثالث هيأة ساقين أماميتين لدابة (أهي حصان أم حمار؟)، يعتليهما شبه ساق نبتة يتوسطه هو الآخر ما يبدو سيقانَ سرطان بحريّ. وباختصار، إنها لوحة يتداخل فيها الحي بالجماد، الحيوان بالنبات بشكل يعسر معه تمييز أحدها عن الآخر[18]. ويسوق ليو نافراتيل عددا كبيرا من رسوم مرضى الشيزوفرينا رسموها تحت إشرافه، لأنه كان يعتمد الفن التشكيلي أداة علاجية، لا تخرج عن هذا المنظور؛ أبرزها اللوحات التي تحشد صورا يتداخل فيها العالم البشري بالطبيعي، والتي تنزع إلى تجسيد بعض مكونات العالم نفسه، كأن ترسم عمارة يتصدَّر واجهتا وجها آدميا يشكل جزءا من البناء نفسه بحيث يتعذر الفصل بين المكوِّنين[19]...
وفي ما وراء التفسيرات المقدَّمة حتَّى اليوم لما يسمَّى بـ «الطوطمية» من كونها ديانة بدائية يفسِّرُ فيها أفراد جماعة ما ارتباطهم فيما بينهم بالانحدار المشترك من جدّ مشترك، يكون عبارة عن حيوان أو نبات، تؤلهه الجماعة وتحرِّمُ على الفرد أكله أو قتله
[20]، في ما وراء ذلك يمكن اعتبار الظاهرة نفسها خطوة للبشرية مُجهَضة في هذا الدَّرب، درب تبديد النمط الوجودي القائم على وهم «الوحدة» لصالح نموذج وجودي أرحب وأوسع قائم على كلية حضور الحياة وتناغم جزيئات الحيوات الصغرى في جسد الحياة-الأم الكبرى. كما يمكن تأويل الصورة التي يحملها الفكر السحري عن العالم باعتباره شبكة من التناسبات تترابط فيها مخلوقات العالم وموجوداته قاطبة، مما يفضي إلى سلاسل من الانتظامات للحيوانات والنباتات والجمادات والجهات والأزمة في خيوط وجودية كبرى تجعل ما من كائن إلا وهو داخل في نسيج عناصر العالمين العلوي والسفلي على السَّواء[21]، يمكن تأويلها هي الأخرى باعتبارها خطوة للبشرية - تعرضت بدورها للإجهاض - في درب تبديد وهم «الوحدة». نقول: خطوتان مجهضتان، بالنظر إلى هذا الاجتياح الذي يشهده العالم اليوم لقيم الحضارة الغربية ومنتوجاتها وأساليب تفكيرها القائمة أساسا على نزع القداسة عَمَّا صرفت البشرية آلاف السنين في «ابتكاره» من رموز وأساطير وتمثلات وزاد روحي عميق[22]. وواضحُُ أنَّ القول بالإجهاض إنما يصدُرُ من أحد موقعي تعارضٍ وجدانيّ - نحن واعون به تماما - بين الوفاء للماضي والارتباط به، أي البقاء داخل مدار ما يمكن تسميته بـ «الإنسان الماضي» [=الإنسان الذي انحدرنا منه]، وبين الإيمان بالإنسان المشرَع على كل الاحتمالات، وبالتالي الانخراط في المستقبل من موقع لا شيء في الحياة يضيع، وأن التقلبات العميقة والهدم المنهجي لإرث الإنسان الماضي [=الإنسان الذي يمضي، ينصرف] يواكبه في الوقت نفسه بناء ميراث جديد وتمثلات جديدة وبنية نفسية جديدة.
متى ولجنا هذا البعد، بُعد الوجود ضمن تمثل خارج وهم «الوحدة» أدركنا الأشياء من حولنا بمنظور أكثر عمقا وبإحساسٍ أكثر رهافة بكائنات العالم المحيط بنا وأشيائه؛ صرنا، مثلا، لا نرى في الورقة التي نكتب عليها مجرد جماد، وإنما حفيدة شجرة مبللة بندى الغاب، محمَّلة - بطريق العدوى كما في السحر
[23] - بآثار مجموع كائنات وحركات وأجواء العالم الذي جاءت منه، وصرنا لا نرى في السيارة التي نـركبها مـجرد كتلـة حديـد، وإنما امتدادا لفضـاء وكائنات المنجم الذي كانت فيه قبل أن تصير ما صارت إياه، امتدادا للرطوبة والعتَمَة والباطن في فضائنا المشمس الفسيح... وعلى هذا يمكن قياس كافة الأشياء التي تحيط بنا أو تؤثت فضاءاتنا أو نستخدمها في سائر أنشطتنا اليومية.
متى ولجنا هذا البُعد فقَدَ الألم معناه، وتبدَّدَ الإحساسُ به، لأن كلّ ما يتسبَّبُ في إيلامنا سنتلقاه باعتباره إفادة لمظهر من مظاهر الحياة الكبرى التي تتجاوزنا. إن جُرحتُ، مثلا، وسالَ دمي لم أتألَّم
[24]، لم أتلقَّ ذلك باعتباره تهديدا لي بالدّخول في العدم، تلقيته باعتباره بؤرة حياتية مَّا «طالبت بحقها» في الوجود فنالته، أو «أذِنَ لها» بأن توجد، كما «أذن لي» من قبل أن أولَد، فحيتْ. من هذا المنظور، لن يمكن تلقي سعي الناس واقتتالاتهم إلا بمنظور الشفقة. إنَّ هذا التصور لا يُضمِرُ تمجيدا للشر أو مدحا لإيذاء الغير بقدر ما يقوم على بذل مجهود لتلقي الألم الذي لا مردَّ له بانشراح نفسي عميق، وبالتالي متى مَنَح مشهدُُ مؤلمٌ نفسه لنا، سواء كنا أطرافا مباشرة فيه أو مجرد متفرجين، كان ردّ فعلنا هو الإشفاق على فاعل الألم ومحتمله في آن واحد، باعتبارهما مجرد أداتين في يـدٍ خفيـة، تتجاوزهما، باعتبارهما ليسـا سـوى أداتيـن في أيـدي الحيـاة كليـة الحضـور.
إعادة النظر في «وهم الوحدة» ينبغي أن تمتدَّ إلى ما يمكن تسميته بـ «التوابع». نعم لكل امرئ توابعه، وتوابع الإنسان مجموع من تربطه بهم روابط القرابة. عندما نستحضر موتنا، ما يتسبَّب في قلقنا - ربما - ليس هو المحو الذي نكون عليه مقبلين، وإنما الآلام التي ستلحق بتوابعنا، بأقرب الناس إلينا، وخاصة إذا كانوا صغارا. غير أنَّ «عشق الموتى لا دوام له؛ فالميت ليس بعائد إلينا»
[25]. إلى هذا نضيف أن لا داعي للمقبل على الموت إلى الانشغال بما سيخلفه من ورائه لأن الحياة ستتكلف بجميع الأشياء من بعده. ليَكُنْ. لكن، كان بالإمكان تبديد كل انهمام بمن سيتخلفون من ورائنا لو لم يتم الإمعان في الإيمان بـ «وهم الوحدة» لدرجة تصوّر الفرد أن حدود إقليمه البشري تقف عند أقاربه وذويه، عند عائلته. بتعبير آخر، إن «وهم الوحدة» المتأصلة في قرابة الدَّم قد حال بين الإنسان - إلى اليوم - وترجمة حقيقة كون العائلة لا تعدو مجرَّد وهم[26]. وهذه الحيلولة هي التي تنسي المرء حقيقة أنه إذا لم يتزوَّج فثمة دائما شخصُُ مَّا، في مكان مَّا، يتزوج، فيعفيه من هذه الصِّلَة، وأنه إن لم يخلف عقبا فثمة دائما أناسُُ آخرون يلدون، وبالتالي فلا خوف عليه من الانقراض، الخ.، وأنَّ أبناء «الغير» أبناؤنا وآباء «الغير» آباؤنا... في هذا المستوى، ما زال يتعيَّن استخلاص دروس كثيرة من المقاصد العميقة لبعض النقط المضيئة في ميراث البشرية الروحي (الديني والفلسفي).
لا يبرِّر انهمام المرء بالأحياء من بعده إلا استباقه لموتـه، والحـال أن الموت الحقيقي - المتعارف عليه حاليا - لا يمكن استباقه إلا في المتخيَّل. هبْ أني متُّ في هذه اللحظة بالضبط: نوبة قلبية، أو انتحار، أو سقوط جدار، أو حادثة سير... ها أنذا أستعرض شريط موتي مشاهدا ما سيتم داخل أسرتي. تصعق الزوجة، لن ير الأطفال أبدا الشخص الذي ظلوا ينادونه حتَّى اليوم بكلمة «بابا»، لن يتاح لهم - وإلى الأبد - أن ينطقوا ثانية بهذه الحروف وهي تستجيب للنطق بإحضار الشخص الذي كان يحملها، يمتلئ البيت بالأقارب، يهرول أصدقاء «مخلصون» وأصدقاء «منافقون». بعض هؤلاء سيسوقه الفضول والطيع بيدين: يدُُ في كفّ الأرملة تقدم التعازي مواسية، ويد في الحجر طمعا في تهييء الشيء لـ «ملء» المكان الشاغر... سيناريو آخر للموت: ألقى حتفي أنا وربَّة البيت دفعة واحدة في حادثة سير مروعة. ويبقى الأبناء يتامى! غير ممكن! لا، متحمل جدا، فما كل الذين ماتوا في حوادث سير علموا أنهم كانوا سيلقون حتفهم في ذلك السفر بالضبط، إلا لكانوا تخلوا عنه. ما مصير الأبناء بعد موت الآباء؟ يتمزَّقُ القلب حسرة. تتفتًّت الأكباد، تغرورق العينان بالدَّمع، لكن دمعة واحدة لن تسقط حتَّى ولو استسعفتُ في استذرافها بما لم تخلق تسميته بعد. هذا ما يمكن أن يتعلمه المرء من طول معاشرة الموت. لا شيء في هذا العالم يستحق إنزال دمعة واحدة. ما الأحاسيس التي تغمرنا لدى التفكير في موتنا إلا مواربات حب الحياة... إن كل ما نخلص إليه من أفكار أو ينتابنا من أحاسيس لا ينتمي إلى الموت في شيء، ذلك أننا متى متنا صرنا كمن استسلم لنوم عميق. ما أن نغادر هذه الحياة حتَّى نصير «غرباء» عن كل ما يملأ رؤوس الأحياء؛ تنحفر بيننا وبينهم الهوَّة نفسها التي تفصل بين النائم واليقظان. ولذلك حريّ بنا ألا ننشغل للأحياء من بعدنا بتاتا. أليق بنا أن نعرض إطلاقا عن التفكير في موتنا. لعل هذا هو أشد الأمكنة إراحة للكائن المنذور للموت: يجب عليه، وفي آن واحد، ألا يكف عن التفكير في الموت وأن ينساه نسيانا تاما. وذلك يقضي عمل الكثير لتغيير التركيبة النفسية الحالية التي ورثناها عن الأسلاف، وتغيير تمثلاتنا للعالم وعلاقاتنا ببعضنا البعض، بحيث يغدو بالإمكان جعل الاستذكار وجها آخرللنسيان، والنسيان وجها آخر للاستذكـار.
قد تكون عتبة هذا التغيير صرفُ الحياة في ذهول منخطف يشبه انتشاءة الحشَّاش أو إشراق المتصوف، لكن قد تكُون أيضا محوُ البعد الزَّمني فينا على غرار الشاعر الكبير الذي «يرى أن الماضي لا وجود له»
[27] و«يكتشف العالم كما لو كان يُشاهد الكوسموغونيا[28]، كما لو كان معاصرا ليوم الخلق الأول»[29]. ذهولُُ يغرقنا في العمل[30]، ويتيح لنا الإشفاق على بعضنا البعض، وتجنيب أنفسنا المساهمة في التعجيل بموتنا أو موت الغير. ولعمري ذلك ما خبرته الديانات الكبرى، وثمة تكمن حكمتها العميقة.

الثلاثاء، 12 يونيو 2007

عتبة بين الكتابة و الألم




«ما الإنسان في الطبيعة؟ هو عدمٌ إزاء اللانهائي، هو كل إزاء العدم، وسط بين اللا شيء والكل»
باسكــال
بقدر ما يبدو أن وضع متغيري «الكتابة» «الألم» جنبا إلى جنب يفتحُ حرية كبرى أمام الفكر، الأمر الذي يُسعده للوهلة الأولى، يُوقع هذا الوضعُ نفسُه الفكرَ في مأزق: لماذا تمَّ وضعُ هتين المقولتين - القطبين جنبا إلى جنب؟ ما مهة الفكر أمام مثل هذا الوضع الذي يظل في نهاية المطاف من إنتاجه؟ لماذا تم عزلُ هذين الشكلين للوجود ووضعُهما على هذا النحو، جنبا إلى جنب، بدل عزل كتل أخرى؟ أبينهما انفصال أم بينهما اتصال؟ أين تقع الحدود في الحالتين معا؟
كان السوفسطائيون، لدى تعريفهم للفلسفة، يشبهونها ببيضة قشرتها المنطق وبياضها الأخلاق وصفارها الفيزياء. تعريف يجده دولوز مغرقا في العقلانية، فيعمد إلى توضيحه بالمثل الحكائي التالي: يطرح تلميذ سؤالَ المعنى: ما الأخلاق يا أستاذ؟ للإجابة، يُخرج السوفسطائي الحكيم بيضة مسلوقة من معطفه، ثم يشير إليها بعصاه (أو يُخرج البيضة، ثم يهوى على التلميذ بضربة عصا، فيفهم هذا أنه يتعين عليه الإجابة بنفسه. يأخذ التلميذ بدوره العصا، ثم يكسر البيضة، بحيث يظل قليل من البياض مرتبطا بالصفار وقليل بالقشرة. كما قد يتولى المعلم نفسه القيام بذلك كله؛ كما قد لا يفهم التلميذ إلا في نهاية سنوات عديدة). وفي سائر الحالات، تبقى وضعية الأخلاق معروضة بشكل جيد، بين قطبي القشرة المنطقية السطحية والصفار الفيزيائي العميق[1].
ربما لا يخلو ما نحن بصدده من تماثل: يشكل «الألمُ» و«الكتابة» قطبين متمايزين، لكن ما أن يُطرَح سؤال المعنى - الحد حتى يبرُز هذا البياض الاستعاري الذي يتيح الحديث عن ألم الأكل وألم النوم وألم القراءة، وألم الكتابة، الخ. بقدر ما يُجوِّزُ الكلامَ عن كتابة الأكل وكتابة النوم، وكتابة المشي وكتابة الجنون، الخ.
فيما وراء هذا الانهمام، يمكن تناول مسألة «الكتابة - الألم» من منظورين مختلفين:
- الأول يتخذ من الكتابة حقلا للتأمل، ثم يقيس درجة حضور الألم فيها؛ يأخذ عينات من أعمال أدبية يشكل التشكي محورها، ثم يحللها أو يسائلها بغاية استخلاص ما يميزها عن غيرها من الأعمال. والفرضية الضمنية التي يمكن أن توجه عملا مثل هذا هي: وجود أعمال «سعيدة» أو «مغتبطة»، إن جاز التعبير، تقع على طرف نقيض من أعمال أخرى «متألمة» «متشكية» . لكن ألا تختزل حتمية الموت - التي تشكل مصدر قلق وألم دائمين للإنسان - تلك «السعادة» إلى مجرد لا شيء أمام الطارئ الأكبر الآتي لا محالة، وهو الموت؟ يضع هذا السؤال صفتي «الغبطة» و«السعادة» نفسيهما موضع تساؤل، ومن ثمة يحيلنا إلى المنظور الثاني، وهو:
- النظرُ إلى الظاهرة الأدبية ككل، دون إجراء أي تقسيمات بداخلها، موضوعاتية كانت هذه التقسيمات أو إستطيقية، ثم مساءلتها، أي النظر إلى الأدب بما هو ممارسة إنسانية تحمل آثار الجرح الأبدي الذي يحمله الإنسان. هذا الجرح الذي يرى باطاي فيه الحياة نفسها ويرى في الكتابة وسيلة لتأجيجه، «تأجيج جرح الحياة، أي تأجيج الجرح الذي هو الحياة»[2]، وبالتالي لا يتلقى هذه الكتابة إلا من فتحت عيناه أبدا على هذا الجرح: «وحده يسمعني من قلبه مكلوم بجرح لا يلتئم، بحيث لا أحد أبدا أراد أن يداويه»[3].
والفرضية الضمنية التي يمكن أن توجه عملا كهذا هي: فيما وراء التقطيعات والتصنيفات التي تجرى داخل الحقل الأدبي ثمة وحدة عميقة يمكن ولوجها والتوغل فيها من مسالك متعددة. إن نتوغل من مسلك الألم، قد تكون الكتابة نفسها ضربا من التشكي. هذا التشكي يُلمَسُ بشكل سافر في أعمال وشهادات الكتاب الذين جعلوا من الحياة وجها آخر للكتابة، أي الذين تكون كتابتهم استجابة لنداء، لا سبيل لتفاديه، نداء يَضع الحياة نفسَها موضع تساؤل، ويضع الكاتب في عتبة، في وسط، في حد، بقدر ما يقع بين الحياة والموت، بين الجسد واللغة يتوغل فيهما. من هذا الموقع بالضبط تنطلق الكتابة. تنطلق إلى أين؟ إلى الإقامة في مكان انطلاقها، على نحو ما سنرى.
والأسئلة التي يمكن طرحها ضمن هذا المنظور هي: أي شيء يسعى الإنسان إلى قوله عبر الكتابة؟ بأي معنى يمكن اعتبار الكتابة صوتا لألم الإنسان في الأرض؟
1. الكتـابـــة:
الكونُ مؤثث بعلامات لا يعدو الإنسان مجرَّد إحداها. إنه كتابٌ. والكتاب يسيج القول بحدود، لا يُقرأ إلا من الخارج، أي من مسافة. هذه العملية تتمنع على الإنسان إلى الأبد ما دام هو نفسه لا يعدو مجرد علامة داخل الكون، كلمة داخل كتاب. أمام هذا التمنع ينتج الإنسانُ كتابة، يدون حروفا عن العلامات المودَعة في الكون، لكن أيضا عن نفسه جاعلا منها عالما، لنحصل بذلك على ثلاثة كتب:
- الكتاب الأصل (كتاب الكون)؛
- كتاب الإنسان باعتباره علامة داخل الكون (كتاب العلامة)؛
- وأخيرا ما يكتبه الإنسان عن «الأصل» و«العلامة»، وهو (الكتابة)؛
وإلى العملية الأخيرة يتجه التأمل الحالي.
لماذا يكتب الإنسان؟ ماذا يكتب؟ ما معنى الكتابة؟ تقتضي كل قراءة - كما أسلفنا - وجود نص (أو كتاب) مكتمل، وهو في هذه الحالة مجموع ما يفعله الإنسانُ ويكتبه. بيد أن الكتابة لم تكتمل بعد. وبذلك تظل القراءة متمنعة، غير مكتملة، لا يمكن أن يقوم بها إلا الإنسان الأخير الذي لم يبق بينه وبين محوه (موت الجنس البشري أو الإنسان الحالي على الأقل) إلا مقدار ما يستغرقه إنجاز هذا التركيب من وقت. وعلى افتراض أن هذا الوضع ممكن، فإن ما كل إنسان يرغبُ - أو يقبل - أن يوضع فيه. وتبقى العملية مؤجلة حتى إشعار آخر. وبذلك، يظل الإنسان محروما من استخلاص المعنى، معنى ما يكتب، لأن لا باب يفضي إليه غير بوابة الموت؛ «تترك المعرفة المرءَ، في نهاية المطاف أمام الفراغ. في قمة المعرفة، لا أعود أعرف أي شيء على الإطلاق، إني أموت، وينتابني الدوار»[4].
ضمن هذا المنظور لا يمكن للكتابة أن تكون إلا صوتا للخوف والقلق على نحو ما يطرحهما هايدغر في «الكائن والزمن»: «يُسمي الخوفُ حدثا للعالم حيثُ يُطرَحُ التهديد باعتباره ممكنا»، فيما يشكل القلق وضعَ موضعَ تساؤلٍ الوجودَ البشري نفسه باعتباره مصدرا لكل معنى ولكل مشروع: «داخل القلق، يجري الموجودُ التجربة داخل عزلة مطلقة، للضياع، لكونه منبوذا في عالم الأشياء ويستطيع، بفضلها أن يلجَ، بوثبة حاسمة، "حرية متقدة"، متخلصة من أوهام الرأي، إلى وجود "أصيل"يقعُ الإنسانُ فيه كل لحظة من الزمن قبالة موته».
2. الألـــم
انتهى هايدغر من تحليل بيت شعري لتراكل (يقول فيه: «الألم حجَّـر العتبة») إلى تعريف للألم بأنه «ما يَصل في التمزق الذي يميز ويجمع، إنه لحمة التمزق، إنه العتبة؛ الألم، إذن، هو الاختلاف»[5]. ضمن هذا المنظور يمكن اعتبار الألم طارئا يترتب عنه تغيير ينعكس على الذات. هذا التغييرُ يمتد في الزمن بدرجات متفاوتة، يجعلنا لسنا ما كنا عليه، يجعلنا مختلفين، يصرفنا عن إنجاز ما كنا بصدد إنجازه إلى الانشغال بكف الألم ووضع حد له. بهذا المعنى يكون الألم حدا، فاصلا، عتبة.
والكتابة بدورها طارئ يتوسط سياقين: أحدهما يهم الكاتب باعتباره فردا، والآخر يحيل هذا التفرد إلى مجرد وهم[6]. يكف الكاتب عن الاستمرار على ما كان عليه، قبل طارئ الكتابة (مثلما يكف الفرد الذي أصابه كسر في عموده الفقري، على إثر حادثة سير، عن الاستمرار على ما كان عليه من قبل)؛ يصيرُ مختلفا جوهريا عن الآخر الذي كانَ إياه قبل حدوث طارئ الكتابة.
تكوِّن الكتابة حقل ألم بامتياز عندما لا ترى الحياة مجالا ممتدا، له بداية ونهاية، مجرد حكاية ذات بداية ونهاية، سعيدة أو أليمة، وإنما إقامة في عتبة. والأشخاص الذين يتولون عملية الكتابة، أي أولئك الذين ندعوهم «كتابا»، إنما يتولونها بالضبط لكونهم يجلسون في مكان اختلاف مزدوج: يختلفون عن الناس، ويختلفون عن أنفسهم. هذا الاختلاف هو سبب ونتيجة في الآن عينه للنداء الأكبر الذي لا مرد له، وهو: «اكتب».
كلنا منغمسون في الحياة، نستلم فيها أدوارا ونلعبها يوميا، دون أن نتساءل عن مصدر هذه الأدوار وشرعيتها وغايتها. ولكن الكاتب (مثل الفيلسوف) يُخضع هذا الانغماس نفسه للتأمل، ينظر حواليه بعيني أوديب، ربما بقلبه كما يقول Saint-Exupéry عندما يؤكد أن المرء «لا يرى (...) جيدا إلا بالقلب، لأن ما هو أساسي يظل غير مرئي للعينين»، فيحوِّل - يتحوَّل كل شيء إلى سؤال، سرعان ما يلقي به، عبر الكتابة، على شكل ملاحظات جريحة، تشكك في كل ما تواضع عليه بنو البشر. فالحياة، مثلا، تغدو سؤالا يتطلب جواب، على نحو ما نجد عند آرتو:
«لم يسأل أحدٌ أحدا يوما:
من أنت؟
من أين أتيت؟
ماذا تفعل هنا؟
وإلى أين أنت سائر؟»
والزمن يصيرُ مصدر قلق دائم، على نحو ما يعبر عنه بودلير قائلا: «في كل دقيقة، تسحقنا فكرة الزمن والإحساس به»[7]
وحتمية الموت تصيرُ جاثمة بكل ثقلها على الحاضر، على نحو ما يؤكد كوكتو: «حتَّى لو عشتُ مائة عام، لن يكون مقامي [في الحياة] إلا كمن أقام فيها بضع دقائق. لكن قليلون الذين يريدون تصديق ذلك، قليلون هم الذين يقبلون تصديق أننا ننشغل ونلعب داخل قطار ينحدر بأقصى سرعته نحو الموت»[8].
تحكي أسطورة أوديب قصة وقوف في عتبة: كان شخصٌ يعيش مغمَض العينين، ففتحهما، رأى ما رأى، لكن صوت القانون باعتباره مؤسسا للهوية، أرغمه على الإغماض، لتتحول الرؤية إلى حد بين إغماضين مختلفين، إلى فاصل بين هويتين: أوديب قبل تجربة فتح العينين ليس هو أوديب بعد هذا الفتح.
الكاتب هو الإنسان يرى بعيني أوديب، والكتابة هي الإبصار بهذه العين. مثل أوديب يفتح الكاتب عينيه، لكن كونه كاتبا يرتكز بالضبط على هذا «القانون» الآخر («قانون» الكتابة) القاضي بملازمة هذا الوضع، ومن ثمة صعوبة أي إغماض. ماذا لو لم يغمض أوديب عينيه؟ لتولى المجتمع نفسه العملية «المشؤومة»، لكن هذه المرة بوسمه بسمة «الآخر»، «المختلف»، «المخالف للمألوف»، الذي لا هوية له. أو ليس هذا تحديدا هو ما اقتضى سمل عينيه؟! ألم نر قبل قليل أن الألم هو «الاختلاف»؟
في هذا الموقع المتلبس، الشائك جدا، الذي يعيدنا إلى مسألة اتصال الحدود وانفصالها، تتأسس الكتابة: ألم يكرر سيلين من كتاب لآخر أن الكتابة هي «إغماض العينين، هي الرؤية من الخارج بعينين شبه مغمضتين»[9]، ومن هذا الموقع، بالضبط أسس عبقريته المتملثة في «الرسو عما في أمكنة أخرى (...) الجرح، العَوَز، القلق، الألم باعتباره مكانا للذات، والفظاعة باعتبارها وجها عموميا بعد ذلك»[10]؟
مثلُ الكلام لذي أوردناه أعلاه لآرتو وبودلير وكوكتو، يمكن أن يرد على لسان أي إنسان عادي، في حديث شفهي، ربما دون أن يسترعي الانتباه، فأحرى أن يُدوَّن أو يُحصَرُ في كتاب؛ لا ينالُ صفة المرجع. لماذا؟ لأنه شذرات تتخلل الحياة «العادية». ولكنه ما أن يُحصَر من لدن أشخاص بين دفتي كتاب حتى ينال بهذه الصفة تأشيرة ولوج حقل التداول. من أي مكان يصدر هذا الكلام؟
3. الكتابة مكانٌ للممنـوع:
كان سقراط يحمل ريبة إزاء الكتابة، يوجه لها تهمة. يسائل بلانشو هذه الريبة على النحو التالي: «كلمة مكتوبة: كلمة ميتة، كلمة للنسيان. هذه الريبة الغريبة نحو الكتابة، التي يشترك فيها أيضا أفلاطون، تظهر أي شك استطاعت توليده، أي قضايا يثيرها الاستعمال الجديد للتواصل المكتوب: ما هذه الكلمة التي ليس وراءها ضمانة شخص ثقة ومهموم بالحقيقة؟!»[11].
يعود ارتياب الفكر السقراطي تجاه الكتابة إلى كونها تعجز عن الإجابة والدفاع عن نفسها إذا ما تعرضت للمهاجمة. على عكس الكلمة المنطوقة لا تتكىء نظيرتها المكتوبة على أي شيء، لا تقدم أي ضمانة. بخلاف ذلك، يمكن مساءلة المتكلم، تفنيد أدلته، الاستماع إلى أجوبته. بتبادل الكلمات، يمتلك الإنسان قدرة إنتاج الحقيقة التي تفترض حضورَ فرد ما ليدافع عن كلامه ويستمع لمناقضه، وهو ما لا يتم في الكلام المكتوب الذي يتقدم وحيدا، في غياب صاحبه[12].
ولكن هذا الحضور الذي تعتمد عليه الحقيقة هو بالضبط ما تنبذه الكتابة في لحظة أو أخرى من لحظات تكوينها مُجَددة الصلة مع إسراف في الكلام مستحيل، مع أصلٍ مستحيلٍ استحالة (تجعل) ما من حاضر إلا ويتعرض فيها للتشظي وما من حقيقة إلا وتتعرض فيها للتناقض، تتعطل هي نفسها. ولأن الكتابة لا تنطلق من أي تعليم يقيني، موقن، لا تنطلق من أي تبرير (...) فإنها تظل غير مشروعة. لا يملك الكاتب أي شرعية عدا لزوم الكتابة، وهو لزوم «لا يقبل مرجعا ولا ضمانة (أو كفالة)، مثلما لا يكتفي بأي إشباع نسبي»[13].
تتأسس الكتابة على ممنوع الحقيقة الناتج عن غياب مزدوج: غياب المؤلف الذي، بانتقاله إلى مكان الكتابة، يرسي قطيعة مع المشافهة، ولكنه من وسط هذا المكان لا يقدم الحقيقة إلا غائبة، متشظية، متناقضة، قابلة لضجيج التأويل، لأنها «تظل هنا، حاضرة، مثل جوهر نار في أعماق الرأس. حقيقة لا تطالب بالفحص، بالملاحظة، بأن تفكَّر، بقدر ما تلتصق باللحم والعظم»[14].
يذكرنا هذا الوضع المتشظي للحقيقة التي تقدمها الكتابة بما يتم في النصوص الدينية؛ فهي تمنح الحقيقة لمتلقيها واحدة موحَّدة، كاملة منسجمة ودائمة، ولكن دوامها، أي دليل كونها حقيقة، يتوقف بالضبط على قابليتها لاختلاف التفاسير. بهذا المعنى، أمام حقيقة شرعية «اختلاف» النص الديني تنصِّبُ الكتابة حقيقة «اختلافٍ» غير مشروع، لا تشرعنه إلا الإلزامية التي يحملها نداء الكتابة.
الكتابة فعلٌ غير عادي يطرأ في سياق «عادي». إنها انتهاكٌ، ألمٌ، وُقوفٌ في عتبة الوجود، في الأصل. هي شرخٌ، ألمٌ، ولكنه ألم قدري، وإلا فمن أين لمن تلقى أمر الكتابة أن يمتنع عن الامتثال؟ نتعمد هنا عدم إيراد إحالات (ستكون عديدة جدا لا محالة) تندرج ضمن نظرية الإبداع باعتباره وحيا، في مقابل النظرية الأخرى التي تراه ثمرة حسابات واعية[15].
يُقدِّمُ الدينُ، مع ذلك، حلا يتمثل في إعفاء الإنسان من الكتابة أصلا. فهي موجودة سلفا ومكتملة. إنها هذه العلامة المتألفة من دال الكون ومدلول النص المنزل باعتباره كتابة متعالية يستحيل على الإنسان تقليدها، فأحرى مظاهاتها. بتعبير آخر، لا يمكن لكتاب آخر إلا أن يشوش على الكتاب الحاضر هنا، على الدوام، وبذلك يلغي (الدين) الكتابين الأخيرين، في تصنيفنا الآنف أعلاه («كتاب العلامة» و«كتاب الكتابة») لفائدة كتاب واحد، مُوَحَّد ومُوَحِّد، هو هذه العلامة المتألفة من دال الكون ومدلول الشريعة. ماذا يبقى للإنسان آنذاك أن يقول؟[16]
بتعبير آخر: بين الكتابة والدين يرتسم اختلاف جوهري يمكن صياغته على النحو التالي: في الحالة الأولى يُلقى الأمرُ: «اكتب»، وفي الثانية يُلقى الأمر: «اقرأ». وبين الكتابة والقراءة مسافة متعذرة الاختزال:
- في حالة القراءة، يكون الكتاب جاهزا، مكتملا، ما على الإنسان إلا فك رموزه واستخلاص معناه، أي الوقوف على الحقيقة؛ تصير المشكلة هي غياب القراءة، ومن ثمة ضرورة إنجازها.
- أما في حالة الكتابة، فيكون الكتاب غائبا، وبالتالي يكون فعل القراءة غير وارد أصلا، لأن وجودَه يتوقف على وجود الكتابة، بيد أنها لم توجد بعـدُ.
بهذا المعنى، نفهم كيف أن الشاعر «يكتشف العالم كما لو كان يُشاهد الكوزموغونيا، كما لو كان معاصرا ليوم الخلق الأول»[17]، حيث يخلق الأشياء بمنحها الأسماء التي ندعوها استعارة.
مما سبق يتضح أن الكتابة هي مجالٌ للاختلاف، والاختلاف هو الألـم بامتياز.
4. الكتابـة وُجـُودٌ على العتبة، مكانٌ للاستحالـة:
عندما وصل الأمرُ: «اقرأ»، كان الجوابُ: «ما أنا بقارئ»، لكن عندما يصل الأمر: «اكتب»، يكون الجوابُ: «أنا كاتبٌ».
لهذا الطرح في لغة النقد ترجماتٌ، منها التعارض القائم بين سانت بوف وبروست في مصدر العمل ووظيفة النقد: يرى الأول في العمل ترجمة للحياة الواقعية، ويحدد وظيفة الفن في وصف الأشياء. في المقابل، يرى بروست في العمل نفسه نتيجة أنا آخر غير الأنا المتجلية في الحياة اليومية، ومن ثمة تكون «الحقيقة التي ينالها الفنان حقيقة فردية، ليست أمامه، وإنما هي موضوعة في كل واحد منا: في الزمن المستعاد، ومن ثمة لا يكتب السارد الكتاب وإنما يترجمه»[18].
وتتمة حكاية الأمرين (اقرأ - اكتب) معروفة على نحو جيد: تمت القراءة، فاصطدمت بمأزق لزوم ترديد المختلف داخل الواحد، وهو ما جعلها لا تنتهي أبدا، تنقلب إلى شبه مونولوغ أو هذيان، إلى صمت أمام النص باعتباره كتابا حقيقيا على نحو ما يعرفه بلانشو عندما يرى أنه «يكون دائما تمثالا. ينتصب وينتظم بمثابة قوة صامتة تمنح للصمت، وبالصمتِ، شكلا وثباتا»[19].
تتمُّ الكتابة أيضا، استجابة للأمر «اكتب»، فتصطدم هي الأخرى بمأزق استحالة الاكتمال، مما يجعلها عملا مؤجلا على الدوام مثلما القراءة مؤجلة على الدوام. بهذا المعنى نفهم نعت الكتاب بـ «الآتي» أو «اللامكتمل» على الدوام.
ويبقى أن لا الذي امتثل لفعل القراءة قرَأ ولا الذي أكْرِهَ على الكتابة كتبَ. ها هي نقطة تجمع المتناقضين لتفرق بينهما في الآن عينه: القارئ يطمئن إلى صمته، يشذر معنى النص، إن جاز التعبير، فيعتبره حقيقة، لاغيا كل التشذيرات الأخرى التي تعتبر نفسها هي الأخرى حقيقة، وهو ما يلتقي بمعنى ما مع قول سارتر: «عندما يصمت الله، يمكن للمرء أن يقوِّلَه ما يشاء». بينما الكاتب، يتألم داخل كلامه، يغرق فيما يشبه المونولوغ والهذيان، يقف على المعنى متشذرا، لكنه يتألم من استحالة توحيده في كتاب.
الكتابة «مجالُ تحرك ثابت»[20]، إذ يتقدم النص، «يتقدم دائما، ولكنه لا يفعل في نهاية المطاف أي شيء سوى التقدم نحو هذه النقطة التي ولَّدَته. هذه النقطة التي لا يستطيع أن يلحق بها - بما أنها تجعله يكتب. هكذا، تجدُ الكتابة، وهي تغامر فيما هو أشد حميمية فيها، تجدُ نفسَها، نتيجة أيضا لهذا، مكانا للعودة الأبدية»[21].
كان الكلامُ السابق كله طريقة في قول ما يلي: أن يصير المرء كاتبا هو بالضبط أن يفتح عينيه، عيني أوديب، فيبصر أنه: «بيضة قشرتها المنفى وبياضها العزلة، وصفارها القلق»، هو أن يباشر سفرا مزدوجا، من عمق الجسد إلى سطح اللغة ومن عمق اللغة إلى سطح الجسد
.

مشكل الثنائية الجنسية


1. الانشطار الأول ومسألة الشر
يبدو أن شرور العالم جميعا تجد أصلها في الانشطار الأول الذي حدثَ في الزمن الميتافيزيقي، والذي أدى إلى ظهور الثنائية الجنسية، إلى ما نصطلح عليه اليوم بـ «الذكر» ثم «الأنثى». بتعبير آخر، قد تعود كل الشرور إلى الجنس باعتباره علامة مميزة تتأصل في الجسد المادي. كلام عام دون شك، بيد أن حكم العمومية، هذا، لن يتبدد إلا بإجراء دراسات واسعة تنكب على العلاقة بين الذكورة والأنوثة في كافة أشكال وجودها (حيوان، نبات، جماد، الخ.)
في حالة الإنسان، كيف حصل هذا التمييز - الانشطار إلى اثنين?
ظهرت أساطير كثيرة في الموضوع لا نود عرضها في هذا السياق. وبتباعد الأزمنة والقرون، نشأ تمايز عميق بين النصفين المتكافئين في الأصل، بالطبيعة، فرجحت كفة أحدهما على الآخر، صار الرجل أقوى من المرأة، كما صارت المرأة أقوى منه. في القديم كان الرجل يسطو على المرأة سطوا، كانت النساء تسبى وتغتصب. للمرور إلى النساء كان الرجال يقتلون الرجال، وإذن فثمن نيل امرأة كان هو ارتكاب جريمة قتل، كي تمتلك امرأة يجب أن تقتل رجلا. كان القتل يتم مباشرة.
وبتطور الأزمنة انقلب هذا الأخذ المباشر، بالعنف، يمر عبر عنف آخر، يُمارسه الرجال على بعضهم بعض بواسطة النساء: تُقسَّم الترواث تقسيما غير عادل، فيستأثر أصحاب الأموال بما شاؤوا من النساء، بشرائهن نهائيا في في أسواق النخاسة، وشرائهن لفترات متراوحة الطول تدريجيا، فيما يكون نصيبُ الفقراء والمعدمين من الرجال ما يفضل عن الأغنياء من النساء (النساء الفضلات) ما لم يحرموا من الإناث بالمرة، إلى أن ظهرت مؤسسة البغاء.
إذا صحت الأطروحة القائلة باجتياز المجتمع البشري مرحلتين، هما المجتمع الأمومي، وفيه كانت المرأة تملك سلطة ارتقت بها إلى مرتبة الألوهية (إلاهات الشرق القديم) ثم المجتمع الأبوي، وفيه تغلب الرجل على المرأة فانتزع منها رتبة الألوهية (ظهور الإله المذكر)، فإنه يمكن تفسير وضعنا الراهن الراهن بما يلي:
- قد تكون البشرية لا زالت لم تبارح طور المرأة الإلهة. وسلوك الرجل، يمكن منحه تفسيرين متعارضين:
أ - الأول: لازالت السلطة الفعلية بيد المرأة، لازلنا نعيش عصر المرأة الإلهة. أي رجل لا يمكن أن يقع اليوم ضحية امرأة؟
ب - الثاني: سقطت سلطة المرأة منذ القديم، والرجل إنما يواصل انتقامه منها منذ سقطت (منذ تعرضت أول امرأة للسبي).
- قد تنتهي شرور العالم يوم يمحي الاختلاف بين الجنسين: فتستطيع المرأة أن تقول: «أنا رجل» مثلما يستطيع الرجل أن يقول: «أنا امرأة»، بل يُستأصَل الاختلاف من العقل استئصالا تاما، فتمحى الفروق بين الجنسين من الثقافة واللغة والفكر، ولا يبقى منها إلا ما هو بيولوجي، لكن بقيمة الحياد أو الصفر.
2. المرأة قضية ميتافيزيقية ستجد حلها ميتافيزيقيا في حلبة التاريخ - الواقع:
يبدو أن قضية المرأة تدخل في إطار عام هو مسألة اختلاف الجنسين:
هذه مسألة ميتافيزيقية، حيث تناولتها جميع الديانات (في هذا الصدد سيكون من المفيد إجراء دراسات حول أساطير أصل المرأة في كافة الثقافات).
إذا كانت المرأة إلهة في المجتمع السابق لمجتمعنا الحالي (المجتمع الأمومي السابق للمجتمع الأبوي - الذكوري) ، هل تم الانتقال فعلا إلى نظام أبوي؟ هل خرجنا من النظام الأموي أم لازلنا غارقين فيه حتى النخاع؟ فيما وراء ضجيج خطابات ما يسمى بـ «قضية المرأة»، التي ترسم لها صورة قاتمة جراء «العنف» و«الغبن» الذكوريين المسلطين عليها، لا أحد بإمكانه أن يقدم جوابا حاسما، إذ حالما نأخذ وجهة الأعماق يفسح المجال لصياغة الأطروحة المعارضة كليا لسابقتها، ومفادها أنه إذا كانت المرأة ضحية عنف وغبن ذكوريين، فإن الرجل لا يعدو في ذلك مجرد ممتثل لأوامر المرأة. أليست الأم هي المدرسة الأولى للتنشئة الاجتماعية؟
مهما يكن من أمر، فإننا نظن أن هذه المسألة ستجد حلها في القرن الحالي، والحل ستساهم فيه عدة عوامل:
أ - البيولوجيا: سينتهي عصر استئثار المرأة بالحبل (الذي قال عنه نيتشه: المرأة لغز، حلها واحد هو: الحبل)، إذ سيتطور الوضع تدريجيا نحو وضع آخر، بحيث لن تظل المرأة مستأثرة بصفة «اللغز» المتأصلة في الحبل، سيصير بوسع الرجل أيضا أن ينال هذه الصفة إن يشاء أن يحبل هو بدل أن تحبل هي؛ سينتنقل السؤال من لماذا تستأثر المرأة بالولادة، من الولادة باعتبارها لغزا محصورا على الأنثى إلى لغز خروج المثيل من المثيل، لغز تضاعف الواحد، لغز خروج جسد من جسد، بغض النظر عن علاماته الجنسية البيولوجية المميزة. هذه المرحلة الأولى من التطور، ستبقى فيها رواسب العصر الحالي. وفي مرحلة لاحقة سيختفي الحبل، بكل بساطة، من الجسدين، إذ سيترفع الإنسان عن مثيله الخارج منه، أو سيهيئ له شروطا أفضل للنمو، بعيدا عن سائر المؤثرات التي تؤثر في الجنين (نوعية المأكولات التي تتناولها، الموسيقى التي تستمع إليها، الأحوال العاطفية التي تنتابها، الخ.)، سيترفع الإنسان عن حمل بذرة داخل جسده، وإيوائها لمدة من الزمن، وتحمل التبعات التي يجرها هذا الاحتضان الذي سيُنظر إليه إما باعتباره تخلفا عقليا لمن لم يكفوا عنه، سيكون تأخرا، أو علامة على فقر (ستكون تكاليف العملية في البداية مرتفعة جدا ولا يقوى عليها الفقراء من الناس). في انتظار الاختفاء النهائي سيتواصل التمييز بين الجنسين، في إطار طبقي...
أخيرا ستتغلب قاعدة: الإنسان لا يمكن أن يلد الإنسان، وستخصص مستشفيات لهذه الغاية، وسيصير الحبل الطبيعي جريمة يُعاقب عليها بكل بساطة طبقا لفصول قانونية ستصاغ لهذا الغرض!
والعقاب سيجد مبرراته في الصيغة التالية: لماذا حبلتَ (أو حبلتِ أو حبلتما)، وأخفيتما عنا الحبل، فجئتمانا بهذا الكائن «الطبيعي» الذي نجهل ما سيكون عليه، لأنه لم يخضع للعمليات التي يخضع إليها كل المواليد، وأهمها إدخال تعديلات على شفرته الوراثية لوقايته من الأمراض وتعديل مزاجه، الخ؟ في هذا الصدد سيكون ما سيخضع إليه الجنين وهو في الأنبوب معادلا لما يسمى الآن بالتلقيح. عقوبة تقابل تلك التي تنزل بالذين يتعاطون المخدرات اليوم، لأنهم بدل الانضباط لقوانين المجتمع، يمتطون طائرات العقل ويفرون إلى الطبيعة...
يتمثل الوجه الميتافيزيقي للحل في العودة إلى الواحد الميتافيزيقي، سيصير الرجل هو المرأة والمرأة هي الرجل، بمعنى أنه سيحتاج إليها وستحتاج إليه بقدر ما سيكون في غنى عنها وستكون في غنى عنه.
ستختفي العائلة، ستختفي مصطلحات القرابة، لكن في إنسان ما بعد الإنسان الحالي (لأن زنا المحارم، سيُلغى). في انتظار ذلك سيختفي مصطلحان من مصطلحات القرابة، وهما أب وأم، ليُستبدلا بمصطلح واحد، ينادي به الطفل أبويه معا....
ب - علم الأمراض العصبية (Neuropathologie)
ج - تقدم الجراحة التجميلية وعلم الهرمونات، بحيث تصير جميع النساء جميلات وجميع الرجال جميلون، يتلونون بما شاؤوا، ويأخذون القامات التي شاؤوا، الخ....، هذا ما لم يطل هذين الحقلين محو جراء الزحف المهول الذي ستشهده البيولوجيا (مع الجينوم بالخصوص)...
د - اختفاء العمل اليدوي - البدني بظهور إنسان جديد، هو الإنسان الافتراضي: ثمة من لا يتردد في اعتبار أن عملية إحلال الشأن الافتراضي محل نظيره الواقعي تشكل جوهر التحولات التي تطبع بداية الألفية الثالثة، وأنها – بصرف النظر عن أي حكم للقيمة - تتقدم باعتبارها حركة «صيرورة» تحول الإنسان الحالي إلى إنسان «آخر». هذه الأولوية للافتراضي تتجاوز حقل الإعلاميات والتواصل إلى جسد الإنسان نفسه واشتغال الاقتصاد والمؤسسات والمقاولات...، بما فسح المجال لأسئلة من نوع: هل يجب التخوف من سحب كلي للواقع؟ هل نحن أمام نوع من التلاشي الكوني، كما يوحي به بودريار؟ هل نحن تحت تهديد تلاش تام للثقافة؟ هل نحن أمام ابتلاع رهيب للزمن-المكان، كما أعلن عن ذلك بول فيريليو منذ سنوات عديدة؟.. الإنسان في هذا السياق، سيتم التأكد من حضوره أو غيابه، من الحاسوب الموجود في منزله أو الحاسوب المحمول، بل والملبوس.. سيعيش الإنسان الافتراضي في شكبة الحاسوب ومجموع الآلات والأجهزة كلية الحضور التي تراقب حركاته وسكناته.
نكــــــتة:
سوف لن يتخلص الإنسان المقبل من رواسب الإنسان الحالي إلا بصعوبة وعبر مراحل ستتعاقب عموما، لكن لا يمنع أن تتعايش في المجتمع الواحد. في أول هذه المراحل سيتم التمسك بالعلامات المميزة بين الجنسين حاليا (العلامات الجسدية)...
3. الغائب في الخطاب النسائي المعاصر: (الشق الأخلاقي في المسألة):
تُقدَّم المرأة في الخطاب الحالي باعتبارها ضحية عنف يمارسه عليها الرجل، عنف جنسي، نفسي، جسدي. هل يعود ذلك إلى التربية؟ إلى الثقافة؟ إلى المجتمع؟
قد يعود إلى ذلك كله، لكن عندما يختلي الرجل والمرأة ببعضيهما، فإن الفرد بقدر ما يستحضر في كل سياق للتفاعل القيم الاجتماعية والثقافة المتلقاة - استحضارا لا شعوريا - بقدر ما يُبدِعُ داخل تلك الخطاطات. ومن ثم، بدل الاحتجاج على العنف الذي تتلقاه المرأة، ينبغي تحليل أسباب ذلك العنف. بتعبير آخر أن تقع المرأة دائما ضحية له، فمعناه أننا أمام قاعدة. ما مصدر هذه القاعدة؟
المعطى هو أن عنفا يُمارَس، هذا العنف لا يمكن أن يكون خارج ثلاث فرضيات:
أ - المرأة تحب العنف، ترغب فيه، وتخلق السياق الملائم لممارسته (قالت العجوز لزارا، إذا ذهبت إلى المرأة، فلا تنس السوط)، قد تكون المرأة كائنا مازوشيا بالطبع، هي التي دفعت الرجل إلى استعمال العنف. وكونها دفعته، وتمادت في حثه عليه إلى أن لم يجد بُدا من ممارسته، فذلك يُعتبَر في حد ذاته عنفا! بتعبير آخر، استعملت العنفَ لإرغامه على استعمال العنف معها. وفي هذه الحالة يكون الرجل هو الضحية لا المرأة! والعقوبة يجب إلحاقها ليسَ بالمرأة المفردة، ولكن بالمرأة المجردة، الكامنة في تمثلاتنا عن الأنثى.
ب - الرجل يُعاقبُ باعتباره جلادا، في حين هو ضحية والجلاد الحقيقي هو المرأة، من ثمة تكون المرأة هي الحاكمة-المتحكمة، في الخفاء، هي صوت القانون، هي القانون في وجهه المظلم.
ج - الرجل يحب العنف: هل يمكن للقوي الثمل بالجبروت وحب العنف أن يمارس دائما عنفه؟ لا، لا يمكن لأي كان أن يخلق سياق استعمال العنف، ما لم يكن يخفي وراء ساديته درجة من المازوشية. فالحرب لا أحد يضمن نتيجتها، وأن أقبل بدخولها، فإني لا أقصي احتمال أن تلحق بي الهزيمة، وبالتالي تلقي العقاب والتألم من جراء ذلك. وإذن فالرجل يمكن أن يخلق السياق، ولكن المرأة تقول له دائما: أهلا وسهلا ومرحبا بك في عالم العنف، فتكون النتيجة أنها تنهزم جسديا ونفسيا، ولكنها تنتصر قانونيا في أغلب الأحيان.
يُنظر إلى مؤسسة الدعارة دائما من زاوية أنها من خلق الرجال، وأن المرأة التي تدخلها هي ضحية المجتمع، وإذن ضحية الذكورة، ضحية المجتمع الذي أقر أفضلية الذكورة على الأنوثة، ومن ثمة أعطى الأولوية في التشغيل للرجل لا المرأة، أو على الأقل لم يضع المرأة في مرتبة واحد مع صنوها الرجل.
لا يُنظرُ أبدا إلى الرجل باعتباره ضحية. لا نسمع أبدا عن التحرش النسوي بالرجل. يُقدَّم الرجل باعتباره يتخذ من المرأة موضوعا شهويا، ولا يُنظَرُ أبدا إلى المرأة باعتبارها تتخذ من الرجل موضوعا شهويا.
يمكن، في نهاية المطاف، النظر إلى الذين يُقدَّمُون باعتبارهم ناشرين للفساد، بمثابة ضحايا. ما ينبغي معاقبته ليس هؤلاء، وإنما النساء اللواتي (يقعنَ) في قبضتهم. أما هؤلاء، فهم رجالٌ، بالغون اجتماعيا، ومهنيا، لكنهم قاصرون وجدانيا وعاطفيا (الرجل طفل صغير على حد تعبير نيتشه وبعده فرويد). والعقوبة التي يمكن أن تلحق بالمرأة هنا هي عقوبة التغرير بقاصر. وهذا لا يمكن الوصول إليه إلا بالتمييز داخل الفرد بين شخصيات عديدة، يجاور فيها الفقير الغني، العاقل المجنون، الأخلاقي اللاأخلاقي، الخ. ما السبيل إلى ذلك؟ هذا عمل ينتظر رجال القانون!
والمرأة تكون بالفعل غررت بقاصر، لأنها منحته شيئا طبيعيا، هو في العمق مساو للشيء الذي يملكه، ثم باعته إياه...
والمرأة التي تخون زوجها تمارس عليه عنفا صامتا، ينطلق من تمثل ضمني بموجبه تضع نفسها أفضل منه، لها حق تعدد الشركاء فيما لا يملك هو هذا الحق، فلو ملكه لما تزوج!
ستختفي الدعارة من تلقاء ذاتها، لأننا إما سندخل عصر مشاعة بدائية (عودة إلى الميتافيزيقا) أو ستصير الدعارة هي القاعدة، وسيختفي مقابلها، وبالتالي تُنزَع عنها التعريف لأن ضدها سيختفي (ذا أردت القضاء على الشيء، فاحذف نقيضه)، والأشياء لا تأخذ معانيها إلا بأضدادها.
4. للتأمــــل:
هل نأسف للوضع الذي سنكون عليه؟ لا، بكل بساطة، لأن الأسف آنذاك سيكون علينا، من قبل لاحقينا-امتداداتنا، سيتأسفون علينا عندما سيكتشفون أننا كنا نفكر بعقل ثنائي، لا يعرف الأشياء إلا بالضد، كنا نشغل عقلنا بالتضاد، في حين ربما سيشتغل عقلهم بالترادف، وسيقضون دهورا لمجرد محاولة اكتشاف ما التضاد؟ (كيف كنا نشغل هذا التضاد، وقلما سيقفون على معناه. وإذا ما وقف الواحد منهم عليه فسيعسر عليه نقله إلى الآخرين)، بل وقد يُجرَّم من يشغل عقله بالتضاد، لأنه خالف الناس، سيُعتَبَرُ مجنونا، بكل بساطة، ولن يسمع أحد لكلامه إذا ما رام أن يشرح لمحيطه ما التضاد على نحو ما نصم آذاننا نحن اليوم - ومنذ قرون - عمن يتوحد بالله إلى أن يجوب الشوراع وهو يقول: «أنا الله»، فيفر الناس عنه فرارا، ويدخلونه إلى مستشفى الأمراض العقلية.
هل يمكن اعتبار التصور الأحادي للعالم، أو الانتقال من عصر التضاد إلى عصر الترادف انتصارا للصوفية والحركات الباطنية جميعا؟ لقد قال أندريه مالرو عن القرن الواحد والعشرين إنه «إما سيكون روحيا أو لن يكون».